فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: فقول نوح عليه السلام: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71].
له رصيد إيماني ضمني، فلا يوجد مجير على الله من خلق الله؛ لأن الخلق كله جماده ونباته وحيوانه إنما ينصاع لأمر الله تعالى في نصرة نوح عليه السلام ولن يتخلف شيء.
هكذا كان توكُّل نوح عليه السلام على الله تعالى بما في هذا التوكل من الرصيد الإيماني المتمثل في: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} [المائدة: 120].
و: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [البقرة: 284].
ولن يخرج شيء عن ملكه سبحانه.
ومن العجيب أنه لم يخرج عن مراد الله في كن إلا الإنسان المختار، لم يخرج بطبيعة تكوينه، ولكن الحق سبحانه وهبه من عنده أن يكون مختارًا، ولو لم يهبه الله تعالى أن يكون مختارًا لما استطاع أن يقف، ولكان كل البشر من جنود الحق. وقد قال نوح عليه السلام: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71].
والإنسان حين يهمه أمر من الأمور يظل مترددًا بين خواطر شتى، ويحاول أن يرى ميزات كل خاطر، ويختار أفضلها، وإذا ما جمع الإنسان خواطره كلها من خاطر واحد، فهذا يعني استقراره على رأي واحد، وجمع أمره عليه.
أما إذا كان الأمر متعدد الناس، فكل واحد منهم له رأي، فإن اجتمعوا وقرروا الاتفاق على رأي واحد، فهذا جمعٌ للأمر.
والاتفاق على رأي واحد إنما يختلف باختلاف هويّة المجتمعين، فإن كانوا أهل خير فهم ينزلون بالشر، وإن كانوا أهل شر فهم يصعدون بالشر.
ومثال ذلك: أبناء يعقوب عليه السلام حينما حدث بينهم وبين أخيهم من الحسد لمكانة يوسف عليه السلام فقالوا: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9].
أي: أن الاقتراح بقتل يوسف هدفه ألا يلتفت وجه يعقوب وقلبه إلى أحد سواهم، وأتبعوا اقتراحهم بقتل يوسف باقتراح التوبة، فقالوا لبعضهم البعض: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9].
وهم قد ظنوا أن التوبة إن نفَّذوا القتل ستصبح مقبولة.
وهذا الشر البادي في حديثهم لم يقبله بعضهم في بادئ الأمر؛ لأنهم أبناء نبوّة، وما يزالون هم الأسباط، لا يصعد فيهم الشر، بل ينزل، فقال واحدٌ منهم: لا تقتلوه بل: {اطرحوه أَرْضًا} [يوسف: 9].
أي: أنه خفَّف المسألة من القتل إلى الطرح أرضًا، وهذه أول درجة في نزول الأخيار عن الشر الأول، وأيضًا تنازلوا عن الشر الثاني، وهو طرحه أرضًا؛ حتى لا يأكله حيوان مفترس، وجاء اقتراح: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10].
ثم أجمعوا أمرهم أخيرًا حتى نزل الشر مرة أخرى لاحتمال ورود النجاة.
إذن: فالأخيار حين يجتمعون على شر لابد أن ينزل.
ومثال ذلك: رجل طيب رأى ابنه وهو يُضرَب من آخر، فيفكر للحظة في أن يضرب غريم ابنه بطلقة من (مسدس)، ثم يستبدل هذه الفكرة بفكرة الاكتفاء بضربه ضربًا مبرحًا بالعصا، ثم يتنازل عن ذلك بأن يفكر في صفعه صفعتين، ثم يتنازل عن فكرة الصفع ويفكر في توبيخه، ثم يتنازل عن فكرة التوبيخ ويكتفي بالشكوى لوالده، وهذا ينزل الشر عند أهل الخير.
أما إن كان الرجل من أهل الشر، فهو يبدأ بفكرة الشكوى لوالد من ضرب ابنه، ثم يرفضها ليصعد شره إلى فكرة أن يصفعه هو، ثم لا ترضيه فكرة الصفع، فيفكر في أن يضربه ضربًا شديدًا، ولا ترضيه هذه الفكرة، يقول لنفسه: سأطلق عليه الرصاص. وهكذا يتصاعد الشر من أهل الشر. وهنا يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا نوح عليه السلام: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71].
أي: اجتمعوا والزموا رأيًا واحدًا تحرصون على تنفيذه أنتم وشركاؤكم، وهو ينصحهم رغم أنهم أعداؤه، وكان عليه أن يحرص على اختلافهم، ولكن لأنه واثق من توكله على ربه؛ فهو يعلم أنهم مهما فعلوا فلن يقدروا عليه، ولن ينتصروا على دعوته إلا بالإقدام على إهلاك أنفسهم.
أو أنه مثلما يقول العامة: أعلى ما في خيولكم اركبوه أي: أنه يهددهم، ولا يفعل ذلك إلا إذا كان له رصيد من قوة التوكل على الله تعالى. ولا يكتفى بذلك بل يضيف: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71].
والغمة: منها الغمام، ومنها الإغماء، أي: فقد الوعي وسَتْر العقل، أي: أنه قال لهم: لا تتبعوا أنفسكم بتبادل الهمسات فيما بينكم بل افعلوا ما يحلو لكم، ولا تحاولوا ستر ما سوف تفعلون.
إن عليكم أن تجتمعوا على راي واحد أنتم وشركاؤكم الذين تعتمدون عليهم، وتعبدونهم، أو شركاؤكم في الكفر، ولم يأبَهْ نوح عليه السلام بتقوية العصبية المضادة له؛ لأنه متوحل على الله فقط.
لذلك يقول: {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71].
أي: أنه يُحفِّزهم على الاجتماع على أمر واحد ومعهم شركاؤهم سواء من الأصنام التي عبدوها أو من أقرانهم في الكفر وأن يصمموا على المضيّ في تنفيذ ما اتفقوا عليه.
وقضى أي: حكم حكمًا، ولكن الحكم على شيء لا يعني الاستمرار بحيث ينفذ، فقد يُقضيَ على إنسان بحكم؛ ويوقف التنفيذ. لكن قوله: {اقضوا إِلَيَّ} يعني: أصدروا حكمكم وسيروا إلى تنفيذ ما قضيتم به.
ثم يقول: {وَلاَ تُنظِرُونَ} أي: لا تمهلوني في تنفيذ ما حكمتم به عليَّ.
والمتأمل للآية الكريمة يجد فيها تحديًا كبيرًا، فهو أولًا يطلب أن يجتمعوا على أمر وا حد، هم وشركاؤهم، ثم لا يكون على هذا الأمر غُمَّة، ثم اقضوا إليَّ ما اتفقتم عليه من حكم ونفِّذوه ولا تؤجلوه، فهل هناك تحدًّ للخصم أكثر من ذلك؟
لقد كانوا خصومًا معاندين، ظل نوح عليه السلام يترفق إليهم ويتحنن لهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وصبر عليهم كل هذا الوقت، ولابد إذن من حدوث فاصل قوي، ولهذا كان الترقِّي في التحدي، فدعاهم إلى جمع الأمر ومعهم الشركاء، ثم بإصدار حكمهم عليه وعدم الإبطاء في تنفيذه، كان هذا هو التحدي الذي أخذ يترقى إلى أن وصل إلى قبول تنفيذ الحكم.
والنفسية العربية على سبيل المثال حين سامحت، وصبرت، وصفحت في أمر لا علاقة له بمنهج الله، بل بأمر يخص خلافًا على الأرض، تجد الشاعر العربي يقول عن بني ذُهْل الذين اتعبوا قوم الشاعر كثيرًا، ولكن قومه صفحوا عنهم؛ يقول الشاعر:
صَفَحْنا عن بني ذُهْلٍ ** وقلنا القومُ إخوانُ

عسى الأيامُ أنْ يرجع ** نَ قومًا كالذي كانوا

فلما صَرَّحَ الشرُّ ** فأمْسَى وهو عريانُ

ولم يبقَ سوى العدوا ** ن دِنَّاهم كما دانوا

مَشَيْنا مِشْيةَ الليثِ ** غَدَا والليثُ غضبانُ

بِضرب فيه توهينٌ ** وتخضيعٌ وإقرانُ

وطعْن كَفَمِ الزقِّ ** غَدَا والزِّقُّ مَلآنُ

وفي الشرِّ نجاةٌ حي ** ن لا يُنجيكَ إحسانُ

وبعضُ الحِلْمِ عند الجهْ ** لِ للذِّلَّةِ إذعانُ

إذن: فالمناجرة بين نوح عليه السلام وقومه اقتضت التشديد، لعل بشريتهم تلين، ولعل جبروتهم يلين، ولعلهم يعلنون الإيمان بالله تعالى، ولكنهم لم يرتدعوا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ}: يجوز أن تكونَ {إذ} معمولةً لـ {نَبأ}، ويجوز أن تكونَ بدلًا مِنْ {نبأ} بدلَ اشتمال. وجوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالًا من {نبأ} وليس بظاهرٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوبًا بـ {اتلُ} لفساده، إذ {اتلُ} مستقبلٌ، و{إذ} ماض، و{لقومه} اللام: إمَّا للتبليغ وهو الظاهرُ، وإمَّا للعلة وليس بظاهرٍ.
وقوله: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} من باب الإِسناد المجازي كقولهم: ثَقُل عليَّ ظلُّه.
وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وأبو الجوزاء {مُقامي} بضم الميم، والمقام بالفتح مكان القيام، وبالضم مكان الإِقامة أو الإِقامة نفسها. وقال ابن عطية: ولم يُقرأ هنا بضم الميم كأنه لم يَطَّلع على قراءةِ هؤلاء الآباء.
قوله: {فَعَلَى الله} جواب الشرط.
وقوله: {فأجمعوا} عطف على الجواب، ولم يذكر أبو البقاء غيرَه. واستُشْكِل عليه أنه متوكلٌ على الله دائمًا كَبُر عليهم مقامُه أو لم يكبر. وقيل: جوابُ الشرط قوله: {فأجمعوا} وقوله: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} جملةٌ اعتراضية بين الشرط وجوابه، وهو كقول الشاعر:
إمَّا تَرَيْني قد نَحَلْتُ ومَنْ يكنْ ** غَرَضًا لأطراف الأَسِنَّة يَنْحَلِ

فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بادِنٍ ** ضخمٍ على ظهر الجَوادِ مُهَبَّلِ

وقيل: الجوابُ محذوف، أي: فافعلوا ما شئتم.
وقرأ العامة: {فَأَجْمعوا} أمرًا مِنْ أَجْمع بهمزة القطع يقال: أَجْمع في المعاني، وجَمَع في الأعيان، فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش، هذا هو الأكثر. قال الحارث بن حلزة:
أَجْمَعُوا أمرهم بليلٍ فلمَّا ** أصبحوا أصبحت لهم ضَوْضَاءُ

وقال آخر:
يا ليت شعري والمُنَى لا تَنْفَعُ ** هل أَغْدُوَنْ يومًا وأَمْري مُجْمَعُ

وهل أَجْمَعَ متعدٍّ بنفسه أو بحرف جر ثم حُذِف اتِّساعًا؟ فقال أبو البقاء: مِنْ قولك أجمعتُ على الأمر: إذا عَزَمْتَ عليه، إلا أنه حُذِفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه. وقيل: هو متعدٍّ بنفسه في الأصل وأنشد قولَ الحارث. وقال أبو فيد السدوسي: أَجْمعت الأمر أفصحُ مِنْ أَجْمعت عليه وقال أبو الهثيم: أجمعَ أمرَه جَعَله مجموعًا بعدما كان متفرقًا قال: وَتفْرِقَتُه أن يقولُ مرةً افعل كذا، ومرة افعل كذا، وإذا عَزَم على أمرٍ واحد فقد جَمَعه أي: جعله جميعًا، فهذا هو الأصلُ في الإِجماع، ثم صار بمعنى العَزْم حتى وصل بعلى فقيل: أَجْمَعْتُ على الأمر أي: عَزَمْتُ عليه، والأصل: أجمعت الأمر.
وقرأ العامَّةُ: {وشركاءَكم} نصبا وفيه أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على أَمْرَكم بتقدير حذف مضاف، أي: وأمر شركاءكم كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، ودلَّ على ذلك ما قدَّمْتُه من أن أَجْمع للمعاني. والثاني: أنه عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف، قيل: لأنه يقال أيضًا: أجمعت شركائي. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ لائق، أي: وأجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة. وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أُبَيّ: {وادعوا} فأضمرَ فعلًا لائقًا كقوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9]، أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومثلُه قولُ الآخر:
فَعَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا ** حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها

وكقوله:
يا ليت زوجَك قد غدا ** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا

وقول الآخر:
إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يومًا ** وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا

يريد: ومُعْتَقِلًا رُمْحًا، وكحَّلْنَ العيونا. وقد تقدم أن في هذه الأماكن غيرَ هذا التخريج. الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي: مع شركائكم قال الفارسي: وقد يُنْصب الشركاء بواو مع، كما قالوا: جاء البردُ والطَّيالسةَ، ولم يذكر الزمخشري غيرَ قولِ أبي علي. قال الشيخ: وينبغي أَنْ يكونَ هذا التخريجُ على أنه مفعول معه من الفاعل، وهو الضمير في {فَأَجْمعوا} لا من المفعول الذي هو {أَمْرَكُمْ} وذلك على أشهرِ الاستعمالين، لأنه يقال: أجمع الشركاءُ أمرَهم، ولا يقال: جَمَع الشركاء أمرهم إلا قليلًا، قلت: يعني أنه إذا جعلناه مفعولًا معه من الفاعل كان جائزًا بلا خلافٍ، لأنَّ مِن النحويين مَنْ اشترط في صحةِ نصبِ المفعول معه أن يصلح عَطْفُه على ما قبله، فإن لم يَصْلُحْ عطفُه لم يَصِحَّ نصبُه مفعولًا معه، فلو جعلناه من المفعول لم يَجُزْ على المشهور، إذ لا يَصْلُح عَطْفُه على ما قبله، إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جَمَعْت.
وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع {فأجْمَعُوا} بوصل الألف وفتح الميم من جَمَع يَجْمَع، و{شركاءَكم} على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقًا على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من الأوجه. قال صاحب اللوامح: أَجْمَعْتُ الأمر: أي: جَعَلْتُه جميعًا، وجَمَعْتُ الأموال جمعًا، فكان الإِجماعُ في الأحداث والجمع في الأعيان، وقد يُسْتعمل كلُّ واحد مكان الآخر، وفي التنزيل: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60]. قلت: وقد اختلف القراء في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64]، فقرأ الستة بقطع الهمزة، جعلوه مِنْ أجمع وهو موافقٌ لِما قيل: إنَّ أجمع في المعاني.
وقرأ أبو عمرو وحدَه {فاجمعوا} بوصل الألفِ، وقد اتفقوا على قولِه: {فَجَمع كيدَه ثم أتى} فإنه مِن الثلاثي، مع أنه متسلِّطٌ على معنى لا عَيْنٍ.
ومنهم مَنْ جَعَل للثلاثي معنىً غيرَ معنى الرباعي فقال في قراءة أبي عمرو مِنْ جَمَع يَجْمع ضد فرَّق يُفَرِّق، وجَعَلَ قراءةَ الباقين مِنْ أجمع أمرَه إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر:
يا ليت شعري والمنى لا تَنْفَعُ ** هل أَغْدُوَنْ يومًا وأَمْري مُجْمَعُ

وقيل: المعنى: فاجْمَعوا على كيدكم، فحذف حرف الجر.
وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب {وشركاؤكم} رفعا. وفيه تخريجان، أحدهما: أنه نسقٌ على الضمير المرفوع بأَجْمِعُوا قبله، وجاز ذلك إذ الفصلُ بالمفعولِ سَوَّغ العطف، والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديرُه: وشركاؤكم فَلْيُجْمِعوا أمرهم.
وشَذَّتْ فرقةٌ فقرأت: {وشركائكم} بالخفض ووُجِّهَتْ على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورًا على حاله كقوله:
أكلَّ امرئ تحسبين أمرَأً ** ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا

أي: وكل نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم، فحذف الأمر وأبقى ما بعدَه على حاله، ومَنْ رأى برأي الكوفيين جوَّز عطفه على الضمير في {أمركم} من غيرِ تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب أعني العطفَ على الضميرِ المجرور مِنْ غير إعادة الجارِّ في سورة البقرة.
قوله: {غُمَّةً} يقال: غَمٌّ وغُمَّة نحو كَرْبٌ وكُرْبَةٌ. قال أبو الهيثم: هو مِنْ قولهم: غَمَّ علينا الهلالُ فهو مغموم إذا التُمِس فلم يُر. قال طرفة ابن العبد.
لعَمْرك ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ ** نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَدِ

وقال الليث: يُقال: هو في غُمَّة مِنْ أمره إذا لم يتبيَّنْ له.
قوله: {ثُمَّ اقضوا} مفعول {اقضوا} محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] فعدَّاه لمفعولٍ صريح. وقرأ السَّرِيُّ {ثم أفْضُوا} بقطع الهمزة والفاء، مِنْ أفضى يُفْضي إذا انتهى، يقال: أَفْضَيْتُ إليك، قال تعالى: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] فالمعنى: ثم افضُوا إلى سِرِّكم، أي: انتهوا به إليَّ. وقيل: معناه: أَسْرِعوا به إليَّ. وقيل: هو مِنْ أفضى، أي: خَرَج إلى الفضاء، أي: فأصحِروا به إليَّ، وأَبْرِزوه لي كقوله:
أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَه ** عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ

ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنه مِنْ فَضَا يَفْضُو، أي: اتَّسَع. وقوله: {لا تُنْظِرون}، أي: لا تُؤَخِّرون من النَّظِرة وهي التأخير. اهـ.